سورة إبراهيم - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


الفرع الغصن من الشجرة. ويطلق على ما يولد من الشيء، والفرع الشعر يقال: رجل أفرع وامرأة فرعاء لمن كثر شعره. وقال الشاعر: وهو امرؤ القيس بن حجر:
وفرع يغشى المتن أسواد فاحم ***
اجتث الشيء اقتلعه، وجث الشيء قلعه، والجثة شخص الإنسان قاعداً وقائماً. وقال لقيط الأياري:
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم *** فمن رأى مثل ذا آت ومن سمعا
{ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}: تقدم الكلام في ضرب مع المثل في أوائل البقرة، فكان يغني ذلك عن الكلام فيه هنا، إلا أنّ المفسرين أبدوا هنا تقديرات، فأعرب الحوفي والمهدوي وأبو البقاء مثلاً مفعولا بضرب، وكلمة بدل من مثلا. وإعرابهم هذا تفريع، على أنّ ضرب مثل لا يتعدى لا إلى مفعول واحد. وقال ابن عطية: وأجازه الزمخشري مثلا مفعول بضرب، وكلمة مفعول أول تفريعاً على أنها مع المثل تتعدى إلى اثنين، لأنها بمعنى جعل. وعلى هذا تكون كشجرة خبر مبتدأ محذوف أي: جعل كلمة طيبة مثلاً هي أي: الكلمة كشجرة طيبة، وعلى البدل تكون كشجرة نعتاً للكلمة. وأجاز الزمخشري: وبدأ به أنْ تكون كلمة نصباً بمضمر أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وهو تفسير لقوله: ضرب الله مثلاً، كقولك: شرف الأمير زيداً كساه حلة، وحمله على فرس انتهى. وفيه تكلف إضمار لا ضرورة تدعو إليه.
وقرئ شاذاً كلمة طيبة بالرفع. قال أبو البقاء: على الابتداء، وكشجرة خبره انتهى. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف والتقدير: هو أي المثل كلمة طيبة كشجرة، وكشجرة نعت لكلمة، والكلمة الطيبة هي: لا له إلا الله قاله ان عباس، أو الإيمان قاله مجاهد وابن جريج، أو المؤمن نفسه قاله عطية العوفي والربيع، أو جميع طاعاته أو القرآن قاله الأصم، أو دعوة الإسلام قاله ابن بحر، أو الثناء على الله أو التسبيح والتنزيه والشجرة الطيبة المؤمن قاله ابن عباس، أو جوزة الهند قاله علي وابن عباس، أو شجرة في الجنة قاله ابن عباس أيضاً، أو النخلة وعليه أكثر المتأولين وهو قول: ابن مسعود، وابن عباس، وأنس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وابن زيد، وجاء ذلك نصاً من حديث ابن عمر مما خرجه الدارقطني عنه قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الآية فقال: «أتدرون ما هي فوقع في نفسي أنها النخلة» الحديث.
وقال أبو العالية: أتيت أنس بن مالك فجيء بطبق عليه رطب فقال أنس: كل يا أبا العالية، فإنها الشجرة الطيبة التي ذكرها الله في كتابه ثم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع بسر فتلا هذه الآية. وفي الترمذي من حديث أنس نحو هذا. وقال الزمخشري: كل شجرة مثمرة طيبة الثمار كالنخلة، وشجرة التين، والعنب، والرمان، وغير ذلك انتهى.
وقد شبه الرسول المؤمن الذي يقرأ القرآن بالأترجة، فلا يبعد أن يشبه أيضاً بشجرتها. أصلها ثابت أي: في الأرض ضارب بعروقه فيها. وقرأ أنس بن مالك: كشجرة طيبة ثابت أصلها، أجريت الصفة على الشجرة لفظاً وإن كانت في الحقيقة للسببي. وقراءة الجماعة فيها إسناد الثبوت إلى السببي لفظاً ومعنى، وفيها حسن التقسيم، إذ جاء أصلها ثابت وفرعها في السماء، يريد بالفرع أعلاها ورأسها، وإن كان المشبه به ذا فروع، فيكون من باب الاكتفاء بلفظ الجنس. ومعنى في السماء: جهة العلو والصعود لا المظلة. وفي الحديث: «خلق الله آدم طوله في السماء ستون ذراعاً» ولما شبهت الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة كانت الكلمة أصلها ثابت في قلوب أهل الإيمان، وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والأعمال الصالحة هو فرعها يصعد إلى السماء إلى الله تعالى: {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وما يترتب على ذلك العمل وهو ثواب الله هو جناها، ووصف هذه الشجرة بأربعة أوصاف: الأول قوله: طيبة، أي كريمة المنبت، والأصل في الشجرة له لذة في المطعم. قال الشاعر:
طيب الباءة سهل ولهم *** سبل إن شئت في وحش وعر
أي ساحتهم سهلة طيبة. الثاني: رسوخ أصلها، وذلك يدل على تمكنها، وأنّ الرياح لا تقصفها، فهي بطيئة الفناء، وما كان كذلك حصل الفرح بوجدانه. والثالث: علو فرعها، وذلك يدل على تمكن الشجرة ورسوخ عروقها، وعلى بعدها عن عفونات الأرض، وعلى صفائها من الشوائب. الرابع: ديمومة وجود ثمرتها وحضورها في كل الأوقات. والحين في اللغة قطعة من الزمان قال الشاعر:
تناذرها الراقون من سوء سمها *** تطلقه حيناً وحيناً تراجع
والمعنى: تعطي جناها كل وقت وقته الله له. وقال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحسن، أي كل سنة، ولذلك قال ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والحكم، وحماد، وجماعة من الفقهاء: من حلف أنْ لا يفعل شيئاً حيناً فإنه لا يفعله سنة، واستشهدوا بهذه الآية. وقيل: ثمانية أشهر قاله علي ومجاهد، ستة أشهر وهي مدة بقاء الثمر عليها.
وقال ابن المسيب: الحين شهران، لأن النخلة تدوم مثمرة شهرين. وقيل: لا تتعطل من ثمر تحمل في كل شهر، وهي شجرة جوز الهند. وقال ابن عباس أيضاً والضحاك، والربيع: كل حين أي كل غدوة وعشية، ومتى أريد جناها ويتخرج على أنها شجرة في الجنة.
والتذكر المرجو بضرب المثل هو التفهم والتصور للمعاني المدركة بالعقل، فمتى أبرزت بالمحسوسات لم ينازع فيها الحس والخيال والوهم، وانطبق المعقول على المحسوس، فحصل الفهم والوصول إلى المطلوب. والكلمة الخبيثة هي كلمة الكفر على قول الجمهور. وقال مسروق: الكذب، وقال: إن تجر دعوة الكفر وما يعزى إليه الكافر. وقيل: كل كلام لا يرضاه الله تعالى. وقرأ أبي: وضرب الله مثلاً كلمة خبيثة، وقرئ: ومثل كلمة بنصب مثل عطفاً على كلمة طيبة. والشجرة الخبيثة شجرة الحنظل قاله الأكثرون: ابن عباس، ومجاهد، وأنس بن مالك، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الزجاج وفرقة: شجرة الثوم. وقيل: شجرة الكشوت، وهي شجرة لا ورق لها ولا أصل قال: وهي كشوت فلا أصل ولا ثمر. وقال ابن عطية: ويرد على هذه الأقوال أن هذه كلها من النجم وليست من الشجر، والله تعالى إنما مثل بالشجر فلا تسمى هذه شجرة إلا بتحوّز، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثوم والبصل «من أكل من هذه الشجرة» وقيل: الطحلبة. وقيل: الكمأة. وقيل: كل شجر لا يطيب له ثمر. وعن ابن عباس: هي الكافر، وعنه أيضاً: شجرة لم تخلق على الأرض. وقال ابن عطية: والظاهر عندي أنّ التشبيه وقع بشجرة غير معينة، إذا وجدت منها هذه الأوصاف هو أن يكون كالعضاة أو شجرة السموم ونحوها إذا اجتثت أي: اقتلعت جثها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهي والضعف، فتقلبها أقل ريح. فالكافر يرى أنّ بيده شيئاً وهو لا يستقر ولا يغني عنه كهذه الشجرة التي يظن بها على بعد الجاهل أنها شيء نافع، وهي خبيثة الجني غير نافعة انتهى. واجتثت من فوق الأرض مقابل لقوله: أصلها ثابت أي: لم يتمكن لها أصل ولا عرق في الأرض، وإنما هي نابتة على وجه الأرض. ما لها من قرار أي: استقرار. يقال: أقر الشيء قراراً ثبت ثباتاً، شبه بهذه الشجرة القول الذي لم يعضد بحجة، فهو لا يثبت بل يضمحل عن قريب لبطلانه، والقول الثابت هو الذي ثبت بالحجة والبرهان في قلب صاحبه وتمكن فيه، واطمأنت إليه نفسه. وتثبيتهم به في الدنيا كونهم لو فتنوا عن دينهم في الدنيا لثبتوا عليه وما زلوا، كما جرى لأصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمناشير، وكشطت لحومهم بأمشاط الحديد، كما ثبت جرجيس وشمعون وبلال حتى كان يعذب بالرمضاء وهو يقول: أحد أحد. وتثبيتهم في الآخرة كونهم إذا سئلوا عند توافق الإشهاد عن معتقدهم ولم يتلعثوا، ولم يبهتوا، ولم تحيرهم أهوال الحشر. والذين آمنوا عام من لدن آدم إلى يوم القيامة. وقال طاووس وقتادة وجمهور من العلماء: أن تثبيتهم في الدنيا هو مدة حياة الإنسان، وفي الآخرة هو وقت سؤاله في قبره، ورجح هذا القول الطبري.
وقال البراء بن عازب وجماعة: في الحياة الدنيا هي وقت سؤاله في قبره، ورواه البراء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الآخرة هو يوم القيامة عند العرض. وقيل: معنى تثبيته في الحياة الدنيا وفي الآخرة هو حياته على الإيمان، وحشره عليه. وقيل: التثبيت في الدنيا الفتح والنصر، وفي الآخرة الجنة والثواب. وما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث البراء من تلاوته عند إيعاد المؤمن في قبره، وسئل وشهد شهادة الإخلاص قوله تعالى: يثبت الله الذين آمنوا الآية، لا يظهر منه يعني: أن الحياة الدنيا هي حياة الإنسان، وأن الآخرة في القبر، ولا أن الحياة الدنيا هي في القبر، وأن الآخرة هي يوم القيامة، بل اللفظ محتمل. ومعنى يثبت: يديمهم عليه، ويمنعهم من الزلل. ومنه قول عبد الله بن رواحة:
فثبت الله ما آتاك من حسن *** تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
والظاهر أنّ بالقول الثابت متعلق بقوله: يثبت. وقيل: يتعلق بآمنوا. وسؤال العبد في قبره معتقد أهل السنة. ويضل الله الظالمين أي: الكافرين لمقابلتهم بالمؤمنين، وإضلالهم في الدنيا كونهم لا يثبتون في مواقف الفتن، وتزل أقدامهم وهي الحيرة التي تلحقهم، إذ ليسوا متمسكين بحجة. وفي الآخرة هو اضطرابهم في جوابهم. ولما تقدم تشبيه الكلمة الطيبة على تشبيه الكلمة الخبيثة، تقدم في هذا الكلام من نسبت إليه الكلمة الطيبة وتلاه من نسبت إليه الكلمة الخبيثة. ولما ذكر تعالى ما فعل بكل واحد من القسمين ذكر أنه لا يمكن اعتراض فيما خص به كل واحد منهما، إذ ذاك راجع إلى مشيئته تعالى، إنّ الله يفعل ما يشاء، لا يسئل عما يفعل. وقال الزمخشري: ويفعل الله ما يشاء أي: توجيه الحكمة، لأنّ مشيئة الله تابعة للحكمة من تثبيت المؤمنين وتأييدهم وعصمتهم عند ثباتهم وعزمهم، ومن إضلال الظالمين وخذلانهم والتخلية بينهم وبين شأنهم عند زللهم انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال.


البوار: الهلاك. قال الشاعر:
فلم أر مثلهم أبطال حرب *** غداة الحرب إذ خيف البوار
{ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار}: لم ذكر حال المؤمنين وهداهم، وحال الكافرين وإضلالهم، ذكر السبب في إضلالم. والذين بدلوا ظاهره أنه عام في جميع المشركين قاله الحسن، بدلوا بنعمة الإيمان الكفر. وقال مجاهد: هم أهل مكة، أنعم الله تعالى عليهم ببعثه رسولاً منهم يعلمهم أمر دينه وشرفهم به، وأسكنهم حرمه، وجعلهم قوام بيته، فوضعوا مكان شكر هذه النعمة كفراً. وسأل ابن عباس عمر عنهم فقال: هما الأعراب من قريش أخوالي أي: بني مخزوم، واستؤصلوا ببدر. وأعمامك أي: بني أمية، ومتعوا إلى حين. وعن علي نحو من ذلك. وقال قتادة: هم قادة المشركين يوم بدر. وعن علي: هم قريش الذين تحزبوا يوم بدر. وعلى أنهم قريش جماعة من الصحابة والتابعين. وعن علي أيضاً: هم منافقو قريش أنعم عليهم بإظهار علم الإسلام بأن صان دماءهم وأموالهم وذراريهم، ثم عادوا إلى الكفر. وعن ابن عباس: في جبلة بن الأيهم، ولا يريد أنها نزلت فيه، لأن نزول الآية قبل قصته، وقصته كانت في خلافة عمر، وإنما يريد ابن عباس أنها تخص من فعل فعل جبلة إلى يوم القيامة.
ونعمة الله على حذف مضاف أي: بدلوا شكر نعمة الله كقوله: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} أي شكر رزقكم، كأنه وجب عليهم الشكر فوضعوا مكانه كفراً، وجعلوا مكان شكرهم التكذيب. قال الزمخشري: ووجه آخر وهو أنهم بدلوا نفس النعمة بالكفر حاصلاً لهم الكفر بدل النعمة، وهم أهل مكة أسكنهم الله حرمة، وجعلهم قوام بيته، وأكرمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا نعمة الله بدل ما ألزمهم من الشكر العظيم، أو أصابهم الله بالنعمة والسعة لإيلافهم الرحلتين، فكفروا نعمته، فضربهم الله بالقحط سبع سنين، فحصل لهم الكفر بدل النعمة، وبقي الكفر طوقاً في أعناقهم انتهى. ونعمة الله هو المفعول الثاني، لأنه هو الذي يدخل عليه حرف الجر أي: بنعمة الله، وكفراً هو المفعول الأول كقوله: {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} أي بسيئاتهم حسنات. فالمنصوب هو الحاصل، والمجرور بالباء أو المنصوب على إسقاطها هو الذاهب، على هذا لسان العرب، وهو على خلاف ما يفهمه العوام، وكثير ممن ينتمي إلى العلم. وقد أوضحنا هذه المسألة في قوله في البقرة: {ومن يتبدل الكفر بالإيمان} وإذا قدرت مضافاً محذوفاً وهو شكر نعمة الله، فهو الذي دخلت عليه الباء ثم حذفت، وإذا لم يقدر مضاف محذوف فالباء دخلت على نعمة ثم حذفت.
وأحلوا قومهم أي: من تابعهم على الكفر. وزعم الحوفي وأبو البقاء أنّ كفراً هو مفعول ثان لبدلوا، وليس بصحيح، لأنّ بدل من أخوات اختار، فالذي يباشره حرف الجر هو المفعول الثاني، والذي يصل إليه الفعل بنفسه لا بواسطة حرف الجر هو المفعول الأول. وأعرب الحوفي وأبو البقاء: جهنم بدلاً من دار البوار، والزمخشري عطف بيان، فعلى هذا يكون الإحلال في الآخرة. ودار البوار جهنم، وقاله: ابن زيد. وقيل: عن علي يوم بدر، وعن عطاء بن يسار: نزلت في قتلى بدر، فيكون دار البوار أي: الهلاك في الدنيا كقليب بدر وغيره من المواضع التي قتلوا فيه. وعلى هذا أعرب ابن عطية وأبو البقاء: جهنم منصوب على الاشتغال أي: يصلون جهنم يصلونها. ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن أبي عبلة: جهنم بالرفع على أنه يحتمل أن يكون جهنم مرفوعاً على أنه خبر مبتدأ محذوف، وهذا التأويل أولى، لأنّ النصب على الاشتغال مرجوح من حيث أنه لم يتقدم ما يرجحه، ولا ما يكون مساوياً، وجمهور القراء على النصب. ولم يكونوا ليقرأوا بغير الراجح أو المساوي، إذ زيد ضربته أفصح من زيداً ضربته، فلذلك كان ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف في قراءة ابن أبي عبلة راجحاً، وعلى تأويل الاشتغال يكون يصلونها لا موضع له من الإعراب، وعلى التأويل الأول جوزوا أن يكون حالاً من جهنم، أو حالاً من دار البوار، أو حالاً من قومهم، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: وبئس القرار هي أي: جهنم. وجعلوا لله أنداداً أي زادوا إلى كفرهم نعمته أن صيروا له أنداداً وهي الأصنام التي اتخذوا آلهة من دون الله.
وقرأ ابن كثير وأبو عمر: وليضلوا هذا، و{ليضل} في الحج ولقمان والروم بفتح الياء، وباقي السبعة بضمها. والظاهر أنّ اللام لام الصيرورة والمآل. لما كانت نتيجة جعل الأنداد آلهة الضلال أو الإضلال، جرى مجرى لام العلة في قولك: جئتك لتكرمني، على طريقة التشبيه. وقيل: قراءة الفتح لا تحتمل أن تكون اللام لام العاقبة، وأما بالضم فتحتمل العاقبة. والعلة والأمر بالتمتع أمر تهديد ووعيد على حد قوله: {اعملوا ما شئتم} قال الزمخشري: تمتعوا إيذان بأنهم لانغماسهم في التمتع بالحاضر، وأنهم لا يعرفون غيره ولا يريدونه، مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه، ولا يملكوه لأنفسهم أمراً دونه، وهو آمر الشهوة والمعنى: إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإنّ مصيركم إلى النار. ويجوز أن يراد الخذلان والتخلية ونحوه: {قل تمتع بكفرك قليلاً إنك من أصحاب النار} انتهى ومصيركم مصدر صار التامة بمعنى رجع. وخبر إنّ هو قوله: إلى النار، ولا يقال هنا صار بمعنى انتقل، ولذلك تعدى بإلى أي: فإنّ انتقالكم إلى النار، لأنه تبقى إنّ بلا خبر، ولا ينبغي أن يدعي حذفه، فيكون التقدير: فإن مصيركم إلى النار واقع لا محالة أو كائن، لأنّ حذف الخبر في مثل هذا التركيب قليل، وأكثر ما يحذف إذا كان اسم إنّ نكرة، والخبر جار ومجرور. وقد أجاز الحوفي: أن يكون إلى النار متعلقاً بمصيركم، فعلى هذا يكون الخبر محذوفاً.


لما ذكر تعالى حال الكفار وكفرهم نعمته، وجعلهم له أنداداً، وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم، وإلزام عمودي الإسلام الصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة. ومعمول قل، محذوف تقديره: أقيموا الصلاة يقيموا. ويقيموا مجزوم على جواب الأمر، وهذا قول: الأخفش، والمازني. ورد بأنه لا يلزم من القول إنْ يقيموا، ورد هذا الردّ بأنه أمر المؤمنين بالإقامة لا الكافرين، والمؤمنون حتى أمرهم الرسول بشيء فعلوه لا محالة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون يقيموا جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله: قل وذلك أن تجعل قل في هذه الآية بمعنى بلّغ وأدّ الشريعة يقيموا الصلاة انتهى. وهذا قريب مما قبله، إلا أن في ما قبله معمول القول: أقيموا، وفي هذه الشريعة على تقدير بلِّغ الشريعة. وذهب الكسائي والزجاج وجماعة إلى أن معمول قل هو قوله: يقيموا، وهو أمر مجزوم بلام الأمر محذوفة على حد قول الشاعر:
محمد تفد نفسك كل نفس ***
أنشده سيبويه إلا أنه قال: إنّ هذا لا يجوز إلا في الشعر. وقال الزمخشري في هذا القول: وإنما جاز حذف اللام لأن الأمر الذي هو قل، عوض منه. ولو قيل: يقيموا الصلاة وينفقوا ابتداء بحذف اللام، لم يجز انتهى. وذهب المبرد إلى أنّ التقدير: قل لهم أقيموا يقيموا، فيقيموا المصرح به جواب أقيموا المحذوف قيل. وهو فاسد لوجهين: أحدهما: أنّ جواب الشرط يخالف الشرط إما في الفعل، أو في الفاعل، أو فيهما. فأما إذا كان مثله فيما فهو خطأ كقولك: قم يقم، والتقدير على هذا الوجه: أن يقيموا يقيموا. والوجه الثاني: أن الأمر المقدر للمواجهة ويقيموا على لفظ الغيبة وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً. وقيل: التقدير أن تقل لهم أقيموا يقيموا قاله سيبويه فيما حكاه ابن عطية. وقال الفراء: جواب الأمر معه شرط مقدر تقول: أطع الله يدخلك الجنة، أي إن تطعه يدخلك الجنة. ومخالفة هذا القول للقول قبله أنَّ الشرط في هذا مقدر بعد فعل الأمر، وفي الذي قبله الأمر مضمن معنى الشرط. وقيل: هو مضارع بلفظ الخبر صرف عن لفظ الأمر، والمعنى: أقيموا، قاله أبو علي فرقة. ورد بأنه لو كان مضارعاً بلفظ الخبر ومعناه الأمر، لبقي على إعرابه بالنون كقوله: {هل أدلكم على تجارة} ثم قال: {تؤمنون} والمعنى: آمنوا. واعتل أبو علي لذلك بأنه لما كان بمعنى الأمر بني يعني: على حذف النون، لأن المراد أقيموا، وهذا كما بني الاسم المتمكن في النداء في قولك: يا زيد، يعني على الضمة لما شبه بقبل وبعد انتهى، ومتعلق القول الملفوظ به أو المقدر في هذه التخاريج هو الأمر بالإقامة والإنفاق، إلا في قول ابن عطية فمتعلقه الشريعة فهو أعم، إذ قدر قُلْ بمعنى بلِّغ وأدّ الشريعة.
قال ابن عطية: ويظهر أن المقول هو الآية التي بعد أعني قوله: الله الذي خلق السموات والأرض انتهى. وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله تعالى الله الذي الآية تفكيك للكلام، يخالفه ترتيب التركيب، ويكون قوله: يقيموا الصلاة كلاماً مفلتاً من القول ومعموله، أو يكون جواباً فصل به بين القول ومعموله، ولا يترتب أن يكون جواباً، لأن قوله: الله الذي خلق السموات والأرض، لا يستدعي إقامة الصلاة والإنفاق إلا بتقدير بعيد جداً. واحتمل الصلاة أنْ يراد بها العموم أي: كل صلاة فرض وتطوع، وأن يراد بها الخمس، وبذلك فسرها ابن عباس. وفسر الإنفاق بزكاة الأموال. وتقدم إعراب {سرا وعلانية} وشرحها في أواخر البقرة.
وقال أبو عبيدة: البيع هنا البذل، والخلال المخالة، وهو مصدر من خاللت خلالاً ومخالة وهي المصاحبة انتهى. ويعني بالبذل مقابل شيء. وقال امرؤ القيس:
صرفت الهوى عنهن من خشية الردى *** ولست بمقلي الخلال ولا قال
وقال الأخفش: الخلال جمع خلة. وتقدم الخلاف في قراءة {لا بيع فيه ولا خلال} بالفتح أو بالرفع في البقرة، والمراد بهذا اليوم يوم القيامة. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنه لا بيع فيه ولا خلال؟ (قلت): من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات، فيعطون بدلاً ليأخذوا مثله، وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستخرجوا بهداياهم أمثالها وخيراً منها، وأما الإنفاق لوجه الله خالصاً كقوله: وما لا حد عنده من نعمة تجزي إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى فلا يفعله إلا المؤمنون الخلص، فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال أي: لا انتفاع فيه بمبايعة ولا مخالة، ولا بما ينفقون فيه أموالهم من المعاوضات والمكارمات، وإنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله انتهى. ولما أطال تعالى الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء، وكان حصول السعادة بمعرفة الله وصفاته، والشقاوة بالجهل، بذلك ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال علمه وقدرته فقال: الله الذي خلق السموات والأرض وذكر عشرة أنواع من الدلائل فذكر أولاً إبداعه وإنشاء السموات والأرض، ثم أعقب بباقي الدلائل، وأبرزها في جمل مستقلة ليدل وينبّه على أنّ كل جملة منها مستقلة في الدلالة، ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد، والله مرفوع على الابتداء، والذي خبره. قال ابن عطية: ومن أخبر بهذه الجملة وتقررت في نفسه آمن وصلى وأنفق انتهى. يشير إلى ما تقدم من قوله: إنّ معمول قل هو قوله تعالى الله الذي خلق السموات والأرض الآية. فكأنه يقول: يقيموا الصلاة، جواب لقوله: قل لعبادي الله الذي خلق السموات والأرض. والظاهر أن مفعول أخرج هو رزقاً لكم، ومِنْ للتبعيض.
ولما تقدّم على النكرة كان في موضع الحال، ويكون المعنى: إن الرزق هو بعض جنى الأشجار، ويخرج منها ما ليس برزق كالمجرد للمضرات. ويجوز أن تكون مِن لبيان الجنس قاله ابن عطية والزمخشري، وكأنه قال: فأخرج به رزقاً لكم هو الثمرات. وهذا ليس بجيد، لأنّ من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج، ورزقاً حالاً من المفعول، أو نصباً على المصدر من أخرج، لأنه في معنى رزق. وقيل: من زائدة، وهذا لا يجوز عند جمهور البصريين، لأنّ ما قبلها واجب، وبعدها معرفة، ويجوز عند الأخفش. والفلك هنا جمع فلك، ولذلك قال: لتجري. ومعنى بأمره: راجع إلى الأمر القائم بالذات. وقال الزمخشري: لقوله، كن.
وانطوى في تسخير الفلك تسخير البحار، وتسخير الرياح. وأما تسخير الأنهار فبجريانها وبتفجيرها للانتفاع بها. وانتصب دائبين على الحال والمعنى: يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات، عن مقاتل بن حبان يرفعه إلى ابن عباس أنه قال: معناه دائبين في طاعة الله. قال ابن عطية: وهذا قول إن كان يراد به أنّ الطاعة انقياد منهما في التسخير، فذلك موجود في قوله: سخر، وإن كان يراد أنها طاعة مقصودة كطاعة العبادة من البشر فهذا جيد، والله أعلم انتهى. وتسخير الليل والنهار كونهما يتعاقبان خلفةً للمنام والمعاش. وقال المتكلمون: تسخير الليل والنهار مجاز، لأنّهما عرضان، والاعراض لا تسخر. ولما ذكر تعالى تلك النعم العظيمة، ذكر أنه لم يقتصر عليها فقال: وآتاكم من كل ما سألتموه، والخطاب للجنس من البشر أي: أن الإنسان قد أوتي من كل ما شأن أنْ يسأل وينتفع به، ولا يطرد هذا في كل واحد واحد من الناس، وإنما تفرقت هذه النعم في البشر فيقال: بحسب هذا الجميع أوتيتم كذا على جهة التقرير للنعمة.
وقرأ ابن عباس، والضحاك، والحسن، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وعمرو بن قائد، وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع في رواية: من كل بالتنوين، أي: من كل هذه المخلوقات المذكورات. وما موصولة مفعول ثان أي: ما شأنه أن يسأل بمعنى يطلب الانتفاع به. وقيل: ما نافية، والمفعول الثاني هو من كل كقوله: {وأوتيت من كل شيء} أي غير سائليه. أخبر بسبوغ نعمته عليهم بما لم يسألوه من النعم، ولم يعرض لما سألوه. والجملة المنفية في موضع نصب على الحال، وهذا القول بدأ به الزمخشري، وثنى به ابن عطية وقال: إنه تفسير الضحاك. وهذا التفسير يظهر أنه مناف لقراءة الجمهور من كل ما سألتموه بالإضافة، لأنّ في تلك القراءة على ذلك التخريج تكون ما نافية، فيكونون لم يسألوه. وفي هذه القراءة يكونون قد سألوه، وما بمعنى الذي. وأجيز أن تكون مصدرية، ويكون المصدر بمعنى المفعول.
ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة وبين تلك على تقدير أنّ ما نافية قال: ويجوز أن تكون ما موصولة على وآتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ومعائشكم إلا به، فكأنكم سألتموه، أو طلبتموه بلسان الحال. فتأول سألتموه بقوله: ما احتجتم إليه. والضمير في سألتموه إن كانت ما مصدرية عائد على الله تعالى، ويكون المصدر يراد به المسؤول. وإن كانت موصولة بمعنى الذي عاد عليها، والتقدير: من كل الذي سألتموه إياه. ولا يجوز أن يكون عائداً على الله. والرابط للصلة بالموصول محذوف، لأنك إن قدرته متصلاً فيكون التقدير: ما سألتموهوه، فلا يجوز. أو منفصلاً فيكون التقدير: ما سألتموه إياه، فالمنفصل لا يجوز حذفه. والنعمة هنا قال الواحدي: اسم أقيم مقام المصدر، يقال: أنعم إنعاماً ونعمة، أقيم الاسم مقام الانعام كقولك: أنفقت إنفاقاً ونفقة، ولذلك لم يجمع لأنه في معنى المصدر انتهى. والذي يظهر أن النعمة هو المنعم به، وأنه هو اسم جنس لا يراد به الواحد بل يراد به الجمع، كأنه قيل: وإن تعدوا نعمة الله ومعنى لا تحصوها، لا تحصوها، لا تحصروها ولا تطيقوا عدها، هذا إذا أرادوا أن يعدوها على الإجمال. وأما التفصيل فلا يقدر عليه، ولا يعلمه إلا الله. وقال أبو الدرداء: من لم ير نعمة الله عليه إلا في مطعمه ومشربه فقد قل علمه، وحضر عذابه. والمراد بالإنسان هنا الجنس أي: توجد فيه هذه الخلال وهي: الظلم، والكفر، يظلم النعمة بإغفال شكرها، ويكفرها بجحدها. وقيل: ظلوم في الشدة فيشكو ويجزع، كفار في النعمة يجمع ويمنع. وفي النحل: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} والفرق بين الختمين: أنه هنا تقدم قوله: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً وبعده، وجعلوا لله أنداداً، فكان ذلك نصاً على ما فعلوا من القبائح من كفران النعمة والظلم الذي هو الشرك، بجعل الأنداد ناسب أن يحتم بذم من وقع ذلك منه، فجاء إن الإنسان لظلوم كفار. وأما في النحل فلما ذكر عدة تفضلات، وأطنب فيها، وقال: {أفمن يخلق كمن لا يخلق} أي: من أوجد هذه النعم السابق ذكرها ليس كمن لا يقدر على الخلق ولا على شيء منه، ذكر من تفضلاته اتصافه بالعذاب والرحمة تحريضاً على الرجوع إليه، وأن هاتين الصفتين هو متصف بهما، كما هو متصف بالخلق، ففي ذلك إطماع لمن آمن به. وانتقل من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق أنه يغفر زلَله السابق ويرحمه، وأيضاً فإنه لما ذكر أنه تعالى هو المتفضل بالنعم على الإنسان، ذكر ما حصل من المنعم، ومن جنس المنعم عليه، فحصل من المنعم ما يناسبه حالة عطائه وهو الغفران والرحمة، إذ لولاهما لما أنعم عليه. وحصل من جنس المنعم عليه ما يناسبه حالة الإنعام عليه، وهو الظلم والكفران، فكأنه قيل: إن صدر من الإنسان ظلم فالله غفور، أو كفران نعمة فالله رحيم، لعلمه يعجز الإنسان وقصوره. ودعوى أن هذه الآية منسوخة بآية النحل لا يلتفت إليها، ونقل ذلك السخاوي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6